خيم الصمت الثقيل بيننا.. كانت كلماتها حادة وجارحة لم تكن هذه المرة الأولى التي ألتقيها وتحدثني بتلك النبرة القاسية، وفي كل مرة أقرر ألا ألتقيها ثانية ولكن أتذكر أيامنا الماضية عندما كانت البسمة لا تفارق شفتيها فأشفق على الحال التي وصلت إليها وأعاود لقائها بين الفينة والأخرى.
كانت تشبه قطعة من الزجاج المحطم..محطم ولكنه جارح..تشعر بالحيرة نحوه هل تشفق عليه لأنه تحطم أم تكرهه لأنه جارح وهذا كان شعوري نحوها بالضبط يتراوح بين الشفقة والألم.
كانت صديقتي فتاة جميلة ومرحة بدأ يتقدم لها الراغبون في الزواج منذ وقت مبكر جدا وقبل أي فتاة أخرى من صديقاتنا.. كانت وقتها تلتزم بالحجاب الشرعي ولم يمنع ذلك سيل الراغبون في الزواج منها، العكس تماما كان هو الصحيح فالكثيرون إختاروها لهذا السبب تحديدا طبعا بالإضافة لجمالها ومرحها وعلاقاتها الاجتماعية.
لا أدري كيف تغيرت؟..كيف حدث هذا؟..المؤكد أن هذه التغيرات لم تحدث مرة واحدة ..خلافاتها البسيطة مع الأخوات إشتدت حدتها..حاولت كثيرا أفهمها أنه لا يوجد انسان يمثل الدين وأن كل إنسان مهما بلغ التزامه فيه أخطاء وثغرات لكنها لم تصغ إلي ربطت بين المشروع الإسلامي وبين بعض الأشخاص وكانت النتيجة انها بدأت بالإبتعاد رويدا رويدا وانتهت بهيئة اللباس وبالتدريج أيضا حتى انتهت للملابس الضيقة والبنطال ووضع المساحيق الملونة على وجهها.
تحول مرحها لسخرية وإستهزاء..لا أنسى ذلك اليوم الذي وصفت فيه جارتنا الجديدة بقولها هذه العانس المتصابية..لا أدري لم وقع في قلبي أنها ستذوق من الكأس نفسه على الرغم من كونها كانت في أوج جمالها.
كيف مرت السنون؟.. نعم لم يتوقف الراغبون في الزواج منها وعلى كثرة من تقدم لها إلا أنهم جميعا كانت فيهم عيوب جسيمة، خطبت أكثر من مرة ولم توفق في الوقت الذي تزوج فيه جميع أخواتها وصديقاتها..الكثيرات تقدم لهن خاطب واحد فقط ولكنه كان كاف ليتم الزواج وينعمن بالإستقرار.
كنت أرقبها وهي تذوي دون أن أستطيع أن أفعل لها شيئا فهي حادة وجارحة ولا تقبل نصحا.
فجأة تحولت صديقتي الذابلة لنصيرة لحقوق المرأة، أسقطت صديقتي كل جروحها النازفة على جنس الرجال ومن بين دموعها المنهمرة نظرت للحياة نظرة مختلفة نظرة تجاهلت ما ينعم به صديقاتها وأخواتها من دفء وإستقرار وقررت فقط أن تنظر لما يعانين منه بالمنظار المكبر فوجدت حياة يملؤها البؤس والشقاء والمشكلات ولم تكتف بتعزية نفسها بهذا بل أخذت على عاتقها أن تؤلب النساء للثورة على حياتهن التي يتخللها الظلم كما تراه..أصبحت كلماتها حادة..نظراتها حادة..لا تلتمس عذر لأحد..الجميع عندها متهم حتى يثبت العكس...لم يعد حتى في طاقتها أن تستمع لأحد..أن يبثها أحد ألمه..مجروحة جارحة.
في لقائي الأخير معها وعلى الرغم من كل حديثها الحاد حدثتني بألم عن شعورها بثقل الأيام وأنها على الرغم من كل المصروفات التي تنفقها على ملابسها حتي تساير الموضة فإن هذا لم يمنحها مظهر الفتاة الشابة التي كانت..حدثتني بأسى عن الفتيات اللاتي يلتقينها فيقلن لها ياخالة والرجال الذين يقولون لها يا سيدة فهي لم تعد تحمل مظهر الآنسة القديم.
همست لي في لحظة صدق أنها كانت تعتقد أن الخمار والجلباب هما ما يمنحانها هذا العمر وأنها عندما تتخفف منهما ستبدو أكثر شبابا وجمالا وبالتالي سيبقى لديها فرصة مناسبة للزواج.
ترددت هل أنصحها مرة أخرى أم ستذهب كلماتي أدراج الرياح.. لا أنكر كنت أخشى من لسانها الجارح ونظراتها الحادة ولكنني لم أكن لأسامح نفسي لو هربت منها ولذت بالصمت.
قلت لها: صديقتي الحبيبة أرجوك إهدئي وفكري مرة أخرى ما عند الله لن تناليه بمعصيته أبدا، حتى لو تزوجت بهذه الطريقة هل تعتقدين أنك سترتاحين مع رجل لا يشغله الدين ولا يجد حرجا أن تسيرين على هذا النحو في الطريق العام؟.
كانت تنظر لي نظرات لا أفهمها لا أعرف هل مهتمة بما أقول أم لا تأبه له نظرات هادئة وساكنة لكني قررت الاستمرار:
هل تذكرين صديقتنا -ن- لقد تزوجت في العام الماضي على تعلمين أنها طيلة هذه السنوات لم يتقدم لها أي خاطب ولكنها ظلت صامدة صابرة هل تعلمين أن زوجها أرمل ولديه طفلان وأن أمها كانت غير موافقة وكانت تقول لها هل يريدك خادمة لأولاده وتمصمص شفتيها وتقول -جلسة الحزانى ولا زواج الندامى- ولكن صديقتنا -ن- رضيت خلقه ودينه وإحتسبت عند الله تربية هؤلاء اليتيمين..هل تعلمين كنت عندها الأسبوع الماضي أبارك لها طفلها الجميل، كانت تبدو في غاية السعادة، كانت جالسة وهي تحمل صغيرها وبجوارها جلس الطفلان الآخران يداعبوا الصغير وهي تربت على ظهورهم لم يكن لدي شك أنها أم تجلس بين صغارها الثلاث..قالت لي والله لقد إستجاب الله لدعائي وأبدلني بعد العسر يسرا إن ربي كريم رحيم..والله لقد نسيت أيام الضغوط وليالي الحرمان كأنها لم تكن..زوجي رجل خلوق كريم يفهم معنى الرجولة جيدا وهو سعيد جدا بي وشاكر لي حسن تربيتي لطفليه اللذين فقدا أمهما واللذين أرجو أن يكونا طريقي للجنة.
توقفت عن الحديث ونظرت في عينيها التائهتين ساد الصمت بيننا لحظات ورأيت دمعة ساخنة تنحدر من عينيها.
الكاتب: فاطمة عبد الرءوف.
المصدر: موقع رسالة المرأة.